سورة الأنفال - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} أي إن مال الأعداء إلى السّلام والموادعة، ورغبوا فيهما فارغب فيهما أنت أيها النبي أيضا، فتلك دعوة إلى خير وأمن وعافية، لا ينبغى- حقّا وعدلا ومصلحة- رفضها والتأبّى عليها.
وأصل {الجنح} و{الجنوح} من {الجناح} إذ كان هو الذي يميل بالطائر إلى الجهة التي يريدها، فهو أشبه بقلع المركب، إذا فرده، وضمّ الجناح الآخر امتلأ ذلك الجناح المفرود بالهواء، ودفع بالطائر إلى الاتجاه الذي يقصده.
فهما إذن جناحان، على جانبى الطائر، يعملهما حيث يشاء، فيتجه يمينا أو يسارا، أو إلى أي اتجاه يقصد.
وكذلك الإنسان في دوافعه ونزعاته، له جانبان، أو جناحان يخفقان في كيانه، مهيآن لدفعه إلى أي اتجاه يشاء.. إلى السلم، أو الحرب، مثلا.. فإن هو أراد السلم، فرد جناح السّلم، فدفع به إلى جانب السلام والموادعة، وإن هو أراد الحرب، فرد جناح الحرب فألقى به في ميدان القتال وساحة الدماء.
فهذا هو بعض سرّ التعبير القرآنى عن دعوة السلام، بالجنوح {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}.
ذلك أنهم كانوا بين داعيين، داع يدعو إلى الحرب، وداع آخر يدعو إلى السلم، ثم رجح فيهم الداعي الذي يدعو إلى السلام، وفى هذا إغراء وتحريض على قبول تلك الدعوة التي تدعو إلى السّلم، فهى وجه جميل طيب، في مقابل الوجه الكريه الذميم، وجه الحرب.
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تحريض آخر للنبى بقبول الدعوة إلى السّلم، إذ كان في حراسة، من توكله على اللّه واعتماده عليه.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} هو تحريض ثالث للنبىّ على الاستجابة إلى دعوة السّلم التي يعرضها عليه الأعداء، وألا يردّه عن قبول تلك الدعوة ما يكون عند القوم من نيّة للغدر، فاللّه سبحانه وتعالى سيكفى النبىّ والمسلمين سوء ما يفعلون.. ذلك أن هؤلاء الأعداء قد خانوا وغدروا، فتعرضوا لسخط اللّه وغضبه، فوق ما أخذهم اللّه به من سخط وغضب لكفرهم وشركهم باللّه.
أما النبىّ والمؤمنون، فقد اتقوا اللّه، ووفوا بالعهد الذي دعاهم اللّه إلى الوفاء به، فكان سبحانه وتعالى معهم، يؤيدهم، وينصرهم على عدوهم.
{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي يكفى أن يكون اللّه معك، يؤيدك، وينصرك.. {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.
فلقد نصرك اللّه من قبل، وردّ عنك بأس القوم الظالمين، فلم تغنهم كثرتهم من اللّه شيئا.. وقد نصرك اللّه كذلك بالمؤمنين، الذين لم ترهبهم كثرة العدوّ وقوته، بل لقد ألقوا بأنفسهم في حومة القتال، وهم على نية الاستشهاد في سبيل اللّه.. فكانوا جندا من جنود اللّه معك.
وفى عطف {المؤمنين} على قوله تعالى {بنصره} تكريم لهؤلاء المؤمنين الذين اجتمعوا إلى النبىّ، وقاتلوا تحت رايته.. وأنهم قوة من قوى الحق، وجند من جنود اللّه، ينصر بهم من يشاء من عباده.
وقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
معطوف على قوله سبحانه: {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي إن من فضل اللّه عليك، ومن القوى التي أمدّك بها، أنه سبحانه أمدك بأسباب النصر والظفر على العدوّ، بما جمع لك من جند آمنوا باللّه، وأخلصوا النية للجهاد في سبيل اللّه.. وأن اللّه سبحانه قد نظر إليك وإليهم، فألف بين قلوب جندك هؤلاء، وجمعهم على الإيمان باللّه، والإخاء في اللّه، فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا، ومشاعر واحدة.
وذلك ما لا يكون إلا عن فضل من اللّه، وبهذا الفضل توحدت قلوب المؤمنين، واجتمعت على الولاء للّه، ولدين اللّه، ولرسول اللّه.. الأمر الذي لا تستطيع قوة بشرية أن تحققه في أي مجتمع إنسانى، على تلك الصورة، ولو أنفقت في سبيل ذلك كل ما في هذه الدنيا من مال ومتاع.
الحرب والسلام.. في الإسلام:
الإسلام دين رحمة وسلام، وليس كما يفترى عليه المفترون أنه دين سيف ودماء.. وكيف وظاهر الإسلام وباطنه جميعا، سلم، وسلام؟ فاسمه الإسلام مشتق من السلام، والسلامة، والسلم، وشارات التحية بين أتباعه، ومن أتباعه، السلام، والرحمة، والبركة.. أما شريعته وأحكامه، فكلها قائمة على اليسر والرحمة، والسلام، بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الناس جميعا.
وحقّا إن الإسلام قد دعا أتباعه إلى الحذر من العدوّ، والإعداد للحرب، والأخذ بأسباب القوة.. وذلك لأن الإسلام دين واقعىّ، يعايش الحياة في أعدل أحوالها، ويستقى من أعذب عيونها، وأصفى مواردها، وليس مجرّد أحكام ومقررات نظرية، يتمثلها الناس ولا يحققونها، ويتصورونها ولا يتعاملون بها، أشبه بما يقع في تصورات الفلاسفة وخيالات الشعراء، إن سعد بها أصحابها في أحلام يقظتهم، فإنهم لم يمسكوا منها بشىء إذ هم فتحوا أعينهم على الحياة وواقعها.
والإسلام يريد لأتباعه يكونوا قوة عاملة في الحياة، وأن يعمروا الأرض، ويبسطوا سلطانهم على القوى الكامنة في الطبيعة، ليحققوا قول اللّه تعالى لهم:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ..}.
ولن يكون ذلك إلا إذا أخذ المسلمون الحياة كما هى، بواقعها، وما يزخر فيها من خير وشر! فليست الحياة إلا مزيجا من الخير والشر، وليس الناس إلا عالما من الأخيار والأشرار.. ولن يسلم لإنسان وجوده، ولن ينتظم لجماعة شأنها إلا بصحبة الحياة والناس على هذا المفهوم، الذي يجمع الخير والشر، ويقابل بين الأخيار والأشرار.
فمن الحكمة ومن الواجب إذن، أن يقيم الإسلام أتباعه في الحياة على طريق بين الخير والشر.. وهم في هذا الطريق مدعوون إلى التعامل مع الخير، ثم هم في الوقت نفسه مطالبون بتجنب الشر والأشرار، وأخذ حذرهم منه ومنهم جميعا.
والشر والأشرار دائما مسلّطون على الأخيار.. إن سالموهم فلن يسلموا منهم، وإن كفّوا أيديهم عنهم بسطوا هم أيديهم إليهم بالبغي والعدوان.
هكذا تجرى الحياة فيما بين الشر والخير، وفيما بين الأشرار والأخيار! كانت دعوة المسيح- عليه السلام- دعوة كلها سلام خالص، بل هى استسلام مطلق لكل ظلم وبغى وعدوان.. هكذا كانت دعوة المسيح، وهكذا كانت سيرته وسيرة حوارييه وأتباعه، تحكمهم جميعا دعوة المسيح المشهورة، والتي تكاد تكون عنوان الرسالة المسيحية: سمعتم أنه قيل عين بعين، وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا (5: إنجيل متى).
فماذا كان نتاج هذه الدعوة؟ هل سلم أتباعها من الأشرار؟ وهل كان موقفهم السلبي من المعتدين الآثمين شفيعا يشفع لهم عند هؤلاء المعتدين، أو يخفف ممّا يرمونهم به من ضر وأذى؟ وهل سلم المسيح نفسه إذ سالم الناس، واستسلم لهم؟
الحق أنّ ذلك كان إغراء لأهل السوء بأهل الصلاح والتقوى.. إذ أنهم ما إن علموا بأن المسيح وأتباعه لا يقابلون الشرّ بالشرّ والعدوان بالعدوان، حتى تسابقوا إلى مدّ يديهم إلى هذه المائدة الممدودة، لكل من يريد إشباع شهوته إلى البغي والعدوان، أو إرواء ظمئه إلى التسلط والقهر وإذلال الناس.. فما أكثر الجياع في الناس إلى البغي والعدوان، وما أكثر الظمأى فيهم إلى التسلط على الناس وقهرهم وإذلالهم..!
فكم لقى المسيح ولقى أتباعه من ضرّ وأذى؟ وكم احتملوا من بلاء وعذاب؟ لقد كانت خطوات المسيح وخطوات أتباعه معه، على طريق ملطخ بالدماء.. دمائه ودماء أتباعه وحدهم.. وليس قطرة دم مراقة من هؤلاء الذين أراقوا دماءهم.
ولحكمة ما أراد اللّه سبحانه للمسيح أن يأخذ هذا الطريق، وأن يحمل تلك الدعوة، ويجرى تلك التجربة في الحياة.
إنها دعوة قاسية، تسير في اتجاه مضاد لسير الحياة.. وقد أرادها اللّه سبحانه هكذا، لعنة من اللعنات التي صبّها على اليهود وأخذهم بها في كل مرحلة من مراحل تاريخهم مع الأنبياء والرسل.
فالمسيح- عليه السلام- هو نبىّ إلى اليهود خاصة، ودعوته مقصورة عليهم لا تتعداهم إلى غيرهم.
وقد جاءهم المسيح بتلك الدعوة التي إن استقاموا عليها، كان فيها إذلالهم، وجعلهم موطئا لأقدام الناس.. وإن هم أبوا أن يقبلوها، ويأخذوا أنفسهم بها كانوا كافرين باللّه، مأخوذين بما أعدّ اللّه للكافرين من خزى في الدنيا عذاب مهين في الآخرة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن اللّه قد أخذ اليهود بأحكام دينية، غايتها تأديبهم وإعناتهم وإذلالهم، لا إصلاحهم، وتقويمهم.. فقد حرم عليهم العمل في يوم السبت، كما حرم عليهم ما أحل لغيرهم من طيبات الطعام.. وذلك مما لا تحتمله النفس، أو تصبر عليه.. واليهودىّ من هذا بين أمرين: إما أن يمتثل أمر اللّه فيه فيهلك، أو لا يمتثله فيكفر.!
نقول: إن تجربة السّلم أو الاستسلام تلك التي دعا إليها المسيح، وعاش فيها قد كشفت عن حقيقة لا شك فيها، وهى أن الحياة ترفض هذه التجربة، ولا تقبلها كمبدأ من المبادئ العاملة فيها.
والمسيح نفسه قد أنهى هذه التجربة في الأيام الأخيرة من حياته، وردّ إلى أتباعه وحواريّيه حقهم في الحياة في الدفاع عن أنفسهم.
يقول المسيح في آخر موقف له مع تلاميذه: {حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية.. هل أعوزكم شى ء؟ فقالوا: لا، فقال لهم:ممكن الآن من له كيس فليأخذه. ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا.} [22: لوقا]!! إن السيف أمر لا بد منه لدفع العدوان، ولردع المعتدين.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}.
تلك هى سنّة اللّه في خلقه، وذلك هو واقع الناس فيما أخذهم اللّه به من سنن.
فالقول بأن الإسلام دين قام على السيف، دعوى كاذبة مضلّة، يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم، كما يراد بها النيل من الإسلام وشريعته.. إنها دعوة خبيثة مسمومة، يراد بها أن تنهزم في نفس المسلم معانى العزة والقوة، لأنه إن أراد أن يسقط تلك الدعوى الباطلة، ويدفع هذه التهمة الظالمة، كان أقرب سبيل إليه هو أن يتجرد من كل سلاح، وأن يتعرّى من كل قوة.. وما حاجته إلى السلاح إن كان السّلاح سبّة تدين دينه، وتريه منه أنه دين بداوة وهمجية، وشريعة غاب، يحكم مجتمعها التناطح بالقرون، والتقاتل بالمخالب والأنياب؟
هذه هى الحركة النفسية التي تحدثها تلك الدعوى الماكرة في نفوس المسلمين، حين يلقون آذانهم إلى هذه التخرصات الفاسدة، التي تجعل القوة التي يبعثها الإسلام في مجتمعه، شارة دالّة على بدائية هذا الدين وتخلّفه.
وتلك الحركة النفسية من شأنها أن تفعل فعلها في تفكير المسلمين، وفى سلوكهم، فتصرفهم صرفا حادا عن كل سبب من أسباب القوة، وبذلك يخلو الطريق للعدوّ المتربص بالإسلام والمسلمين، فتمكنه الفرصة من التسلط عليهم، والاستبداد بأوطانهم وأرزاقهم.. الأمر الذي وقع على أبشع صورة وأشنعها، إذ وقعت أوطان المسلمين جميعها فريسة للاستعمار، الذي سلط عليها سيف القوة، فسلبها كل مقومات حياتها المادية والخلقية، وكاد يسلبها حياتها الروحية، لو لا وثاقة هذا الدين، الذي يجرى في مشاعر أهله، جريان الدم في العروق.
والحق أن هذه الدعاوى الباطلة التي يدعيها المدّعون على الإسلام، وأنه دين بداوة وشريعة غاب، يتعامل مع الناس بالظّفر والناب- هذه الدعاوى لا يقف أمرها وخطرها عند حدّ تشكيك المسلمين في الإسلام وانحلال الرابطة التي تربطهم به أو توهينها، أو في صرف غير المسلمين عن الالتفات إلى الإسلام، بإثارة هذا الجوّ المريب حوله، حتى لا ينظر فيه أولئك الذين خلت نفوسهم من الدّين، من أهل أوربا وأمريكا، الذين اصطدمت معارفهم العلمية بقضايا الدّين الذي ورثوه ميراثا عن آبائهم وأجدادهم، والذي استبان لهم منه بعد أن عرضوه على أضواء العلم الحديث أنه لا يلتقى مع عقل، ولا يستقيم على منطق، فهجروه، وزهدوا فيه، وأصبحوا على غير دين، الأمر الذي لا يبصرون طويلا عليه، إذ لا بد أن يطلبوا دينا، تعيش فيه مشاعرهم، وتتغذى منه أرواحهم، حيث لا يمكن أن يعيش إنسان- أي إنسان- من غير دين.
وليست موجات الإلحاد التي تغزو أوربا وأمريكا الآن إلا عرضا طارئا، جاء نتيجة لازمة لما كشف عنه العقل الحديث، من مفارقات بعيدة، بين الدّين الذي كان في أيديهم، وبين منطق العقل، وواقع الحياة.
إن أهل أوربا وأمريكا ينشدون اليوم دينا، يملأ هذا الفراغ الروحي الذي يعيشون فيه، ولو أنهم التقوا بالإسلام على حقيقته، وتعرفوا على موارده الصافية، لما مدّوا أبصارهم إلى دين غيره، ولكانوا من المؤمنين باللّه، إيمانا قائما على دعائم ثابتة، تملك عقولهم وقلوبهم على السواء.
وتلك حقيقة يعرفها عن الإسلام أولئك الذين يحاربون الإسلام، ويخشون منه هذا الغزو السلمى المكتسح، الّذى من شأنه- لو قدّر له أن يتصل بالنّاس اتصالا مباشرا من غير أن يثار في وجهه غبار الضلال ودخان الإفك- أن يقوض سلطان المتسلطين على الناس هناك باسم الدين، وأن يسلبهم هذا الجاه العريض الذي يعيشون فيه.. تماما كما فعل مشركو قريش حين جاءهم الإسلام فأنكره سادتهم وحاربوه، وهم يعلمون أنه الحق من ربّهم، ولكنه الحق الذي يسلبهم منزلتهم في الناس، ويسوّى بينهم وبين عامة الناس، فآثروا السلطان الذي في أيديهم، مع العمى والضلال، على الحق الذي عرفوه وأنكروه!.
ومن أجل هذا كانت تلك الحرب المسعورة التي يشنها أصحاب الرياسات الدينية ومن في حكمهم، على الإسلام، حتى يسلم لهم ما في أيديهم من جاه وسلطان، ولو هلك الناس، وغرقوا في الضّلال، ودانوا بالكفر والإلحاد!.
ومع هذا كله، فإن المستقبل للإسلام، وستكشف الأيام وجهه المشرق الوضيء للناس يوما، إن عاجلا أو آجلا، وسيصبح هذا العنوان الذي اتخذه {الإسلام} عنوانا له، وسمة دالة عليه- هو دين الإنسانية كلها، وبهذا يتحقق قول الحق جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}، وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
هذه حقيقة نؤمن بها إيماننا باللّه، وبدين اللّه، وبكتاب اللّه.. وإن هذه الرّميات العمياء التي يرمى بها الإسلام لن تنال منه، ولن تقف في طريق أنواره أن تملأ الآفاق، وأن تبسط على الأرض سلطانها، لأنها نور من نور اللّه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
ونعود إلى قضية السيف التي يدّعيها المدّعون على الإسلام، وأنه قام عليه، وفتح طريقه إلى القلوب به- فنقول:
إنه لو كان أمر الإسلام أمر قوة، لما كان في الحياة اليوم إنسان يدين بالإسلام، ولما كانت دعوة الإسلام أكثر من حدث من أحداث التاريخ، عاش في الحياة زمنا، ثم طواه الزمن فيما طوى من وقائع وأحداث.
فهل هذا هو واقع الإسلام؟ وهل هذا هو شأنه في وقائع الحياة وأحداثها؟
إن الأمر لعلى عكس هذا تماما.
وإن شهادة الواقع لا تحتاج إلى بيان.. فهى ناطقة بأفصح لسان، بأن دولة الإسلام تزداد على الأيام امتدادا واتساعا، وأن زحفه السلمىّ المكتسح لم يتوقف لحظة واحدة، حتى في أقسى الظروف وأحلكها، التي مرّت بالإسلام وألقت بكل ثقلها عليه.
لقد قطع الإسلام من حياته المباركة أربعة عشر قرنا.. وأنه إذا سلّمنا بالقول بأن الإسلام قام على السيف والقوة، في أول حياته، فإنه محال أن يسلّم بالقول بأن ذلك السيف وتلك القوة قد صحبا الإسلام، وكانا مستندا له على امتداد هذا الزمن كلّه.
فما عرف الناس في الحياة قوة تظل حارسة ساهرة لمبدأ من المبادئ أو نزعة من النزعات، أكثر من سنوات معدودات.. لجيل أو جيلين.. أما أن تظل هذه القوّة قرونا متطاولة من الزمن، قائمة على حراسة مذهب من المذاهب، أو نزعة من النزعات، فذلك ما لم يكن ولن يكون أبدا.. فإن القوة إنما تخدم غرضا ذاتيا يعيش في كيان إنسان من الناس، أو جماعة من الجماعات، ولن تتجاوز حياتها بحال حياة هذا الإنسان أو تلك الجماعة.. ثم يموت المبدأ أو المنزع، بموت القوة التي أقامته، وحرسته! ونفترض جدلا أن تقوم قوة ما لخدمة غاية من الغايات أجيالا متعاقبة، ونفترض جدلا كذلك، أن هذه الأجيال قد تواصت فيما بينها على اتخاذ هذه القوة حارسة على هذه الغاية التي تنشدها وتعيش فيها.
فهل حدث هذا في المجتمع الإسلامى؟ وهل كانت القوة دائما إلى جانب الإسلام، تحرسه، وتدافع عنه؟
التاريخ يشهد شهادة لا شك فيها- وواقع المسلمين اليوم ينطق بها- بأن دولة المسلمين التي قامت في صدر الإسلام، والتي كان لها ما كان من قوة وسطوة- هذه الدولة، قد تفككت وانحلت بعد ثلاثة قرون، وعراها الوهن والضعف، وأصبحت دولة الإسلام إمارات ودويلات متنابذة متخاصمة، وخضع كل صقع من أصقاع هذه الدولة، لقوى غاشمة طاغية، تضمر للمسلمين كل عداوة، وترصد للإسلام كل شر.
لقد وقع الإسلام والمسلمون في وجه عواصف عاتية جائحة، للغزو البربري، الذي كان من شأنه أن يدمر كل شىء، ويأتى على كل شىء، لو لا قوة هذا الدين، وما غرس في أتباعه من معالم الحق والخير.. وحسبك أن تذكر هنا الغزو التترى، أو الغزو المغولى.. فما مرّ أحدهما بمواطن من المواطن إلا أحاله خرابا يبابا.. ثم حسبك أن تذكر الحروب الصليبية، ثم الاستعمار الغربي الذي تسلط على قارتى أفريقيا وآسيا، حتى لقد كانت مواطن الإسلام كلها تحت يده.. فما حلّ الاستعمار بأرض إلا أجدبت من كل خير، وأصبحت مرعى خصبا لآفات الجهل والفقر والضعف.. ومع هذا كله، ومع ما أصاب المسلمين من بلاء، فقد بقي الإسلام في قلوب أهله متمكنا قويّا، لا يتحولون عنه أبدا، ولو أخذوا بكل ألوان الضر والأذى، في أموالهم وأنفسهم، أو جىء إليهم بكل مغريات الحياة من مال ونساء على يد المستعمرين والمبشرين.
فتاريخ الاستعمار للدول الإسلامية، يؤلف كتابا ضخما، أسود الصفحات، لما كان يأخذ به المستعمرون الأمم الإسلامية بصفة خاصة، والعربية بصفة أخص، من بغى وعدوان، وتسلط قاهر، على مقومات الحياة في تلك الأمم، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية، وما تلقّاه عنها أهلها من لغة وعادات وتقاليد، وذلك ليضعفوا الصّلات التي تصل المسلمين بدينهم، وليوهنوا من الأسباب التي تربط بين جماعاتهم.. ومع هذا كله فقد بقي الإسلام متمكنا في القلوب، راسخا في الضمائر، مختلطا بالمشاعر، لم يسلم للمسلمين شيء غيره، مما كان لهم في هذه الدنيا، التي سلبهم الاستعمار إياها، أو قتلها، حيث لم يكن له حاجة فيها.. وكان الإسلام دائما هو القوة التي يستند إليها المسلمون، كلّما خذلتهم قوى الحياة جميعا، من علم، ومال، ورجال.
وتاريخ التبشير في المحيط الإسلامى يحدّث عن أكبر هزيمة، وأعظم خيبة منى بها عمل من الأعمال، أو أصيب بها حركة من الحركات، أو انتهت إليها دعوة من الدّعوات.
فما استطاعت تلك الحملات التبشيرية التي رصدت لها دول أوربا وأمريكا الأموال الضخمة، وجنّدت لها العقول الجبارة- ما استطاعت هذه الحملات أن تنال من الإسلام منالا، أو أن تحوّل مسلما واحدا عن دينه، أو تفتنه فيه، بل كان المسلم الأمّىّ الساذج، يفحم بفطرته السليمة، وبعقيدته السمحة الواضحة كلّ منطق، ويخرس كل ذى لسان، حتى يرفع بصره إلى السماء قائلا:
{لا إله إلا اللّه}.
!
فإذا ادّعت حملة من حملات التبشير أنها استطاعت بحولها وحيلتها أن تخرج مسلما عن إسلامه، فقد كذبت وافترت، لتخدع أولئك الذين يمدونها بالمال، كى يدوم لها هذا المدد. فإنها- وقد فاتها الكسب الديني- حريصة على ألا يفوتها الكسب المادىّ من هذا المال الذي يتدفق إليها في سخاء من كل جهة، وإنه لمال كثير، أثرى به عدد وفير من أدعياء الدين، الذين يتخذون التبشير تجارة لهم، ودعاية للاستعمار، وتمكينا للمستعمرين.
نريد من هذا أن نقول: إن الإسلام بقوته الذاتية، هو الذي حمى المسلمين في ساعات العسرة، وأمسك بهم على ضربات الزمن القاتلة، وأمدهم بأمداد لا تنفد من القوى الروحية، التي لم تنل منها يد التسلط والبغي، ولم تنفذ إليها ضربات المتسلطين والباغين.. وإنه لو لا الإسلام لما بقي لمواطن المسلمين معلم من معالم الحياة، يعرفون به مكانهم في هذا التيه الذي رماهم الزمن به.
فالمسلمون ليسوا هم الذين وسعوا رقعة الإسلام، ومكّنوا له في الأرض، ودفعوا به إلى كل أفق من آفاقها، بل الإسلام نفسه هو الذي جعل للمسلمين دولة.. والإسلام نفسه هو الذي غذّى هذه الدولة بأسباب الحياة والنّماء.
والإسلام نفسه هو الذي كان الدرع الواقية والحصن الحصين لأهله، يلوذون به، ويستظلون بجناحه، كلما لفحهم هجير الحياة، وتعاوت حولهم الذئاب.
إن الذي كان يمكن أن يكون موضع طعن في الإسلام لمن تسوّل له نفسه الطعن فيه، هو أن يتجه بذلك إلى مبادئه وأحكامه.. أهي حقّ أم باطل؟ أهي خير ورحمة للإنسانية أم هى شر ووبال عليها؟ وهل سعدت الإنسانية في ظل الإسلام أم شقيت؟ وهل هذه الملايين التي تدين بالإسلام اليوم مكرهة عليه، وواقعة تحت قوة قاهرة، تحملها عليه، وتلجئها إلى التمسك به؟.
هذا ما كان ينبغى أن يكون مدار هذه الدعوى، إن كان لا بد من دعوى يدعيها أعداء الإسلام على الإسلام.
أما تلك الدعوى الخبيثة التي تتجه اتجاها مباشرا إلى تجريد المسلمين من القوّة، وخلق عقدة نفسية بينهم وبينها، فذلك هو الغرض الذي تحاول تلك الدعوى أن تحقّقه في المجتمع الإسلامى، ليتعرّى من القوة وأسبابها، وليظل أعزل من كل سلاح، على حين يعمل أعداء الإسلام والمسلمين جاهدين على الإعداد للقوة، والأخذ بكل أسبابها.
ثم ما الإسلام؟ أهو مجرّد مبادئ وأحكام ملقاة في العراء، لا يلتفت إليها أحد، ولا يتأثر بها إنسان، أم هو مبادئ وأحكام، يؤمن بها الناس، ويعيشون في ظلها، ويعملون بوحيها؟
وقد يصح أن يكون الإسلام مجرد مبادئ وأحكام، وذلك في معرض الدراسات النظرية التي تعنى بدراسة الأفكار وتمحيصها، دراسة فلسفية نظرية، بعيدة عن مجال التطبيق العملي لها.
أما حين تصبح هذه المبادئ وتلك الأحكام في مواطن العقول، وفى قرارة القلوب، وفى خلجات الضمائر، ومسرى المشاعر، فإنها إذا ذاك لا يمكن أن تكون شيئا منفصلا، له حقيقة مستقلة، تقع عليها أحكام خاصة بها.
فدعوى أن الإسلام قام على السيف، لا يمكن أن توجه إلى الإسلام في مبادئه وأحكامه، وقد رأينا كيف عاش وسيعيش الإسلام بلا سيف ولا قوة، قرونا متطاولة، لا تنتهى إلا بانتهاء الحياة.
وإنما تتجه هذه الدعوى- قبل كل شىء- إلى المجتمع الذي يدين بالإسلام، ويعيش في ظلّ أحكامه وتعاليمه.
ومع هذا نستطيع أن نقول إن وجه الدعوى يجب أن يكون على هذا الوضع: المجتمع الإسلامى مجتمع قام على السيف.. وحينئذ يمكن أن تسمع هذه الدعوى، وتكون موضع نظر وبحث.
فالدعوة الإسلامية- في ذاتها- لم تقم على السيف، وإنما الذي قام على السيف وكان لا بد أن يقوم عليه دائما، هو المجتمع البشرى الذي انضوى تحت لواء هذه الدعوة، ثم امتدّ وامتدّ حتى صار دولة عريضة طويلة، تنتظم شطر العالم أو أقلّ من شطره قليلا.
وطبيعى أن مجتمعا كهذا المجتمع في الامتداد والسّعة، لا يمكن أن يكون أعزل من السلاح، مجرّدا من القوة.. فإن طبيعة الحياة تأبى أن يعيش الضأن مع الذئاب.. بل لا بد أن يكون هناك توازن في القوى، وإلّا، فالويل للضعيف! إن المجتمع الإسلامى- كأى مجتمع في الحياة- له ذاتيته المتميزة، وله وجهته وفلسفته في الحياة.. وطبيعى أن تقوم في ظلّ هذه المعاني عصبية، هى التي تجتمع عليها الأمم والشعوب، وتقيم منها وحدة مميزة في مشاعرها، ومنازع أفكارها، ومتجه سلوكها.. كما كان لا بد أيضا أن يتعصب على هذه الأمم وتلك الشعوب أعداء يخافون قوتها، أو يطمعون في ضعفها، ومن هنا يكون الصراع الذي لا بد منه في الحياة، والذي لا بد له من قوة، ولا بد لهذه القوة من سيف، بل ومن سيوف! ونعود فنذكّر من نسى، فنقول: إن اليوم الذي تخلّى فيه المسلمون عن القوة، كان هو اليوم الذي فيه حينهم ومصرعهم، بأيدى من يملكون القوة.
ثم لم يكن للمسلمين من قوة يستندون إليها إلا الإسلام، الذي منحهم الإيمان، والصبر، والعزم، وعمر قلوبهم باليقين بأن شاطىء النجاة قريب منهم، إن هم تمسّكوا بدينهم، وقاموا على شريعته، وأخذوا بهديه، والتمسوا أسباب القوة المادية التي أمرهم اللّه بها في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} إلى جانب القوة الروحية التي عمر الإسلام قلوبهم بها.. ومن خلال هذه المشاعر كانت تنقدح في صدور المسلمين شرارات الأمل والرجاء، فيشتدّ عزمهم، ويقوى إيمانهم، وتذهب وحشتهم، وهم في صحبة دينهم، وفى ظلّ مما يفىء عليهم من خيره الكثير.
فلنحذر إذن هذه الدعوى الخبيثة، التي تجعل من تهم الإسلام عندها، أنه قام على السيف، ولنعدّل موقفنا تجاه هذه الدعوى، فإننا- عن حسن نية- قد علمنا جاهدين على دفعها، وتبرئة ساحة الإسلام منها، كما أننا حمدنا لبعض المستشرقين- ونواياهم معروفة- ما كان منهم من دفاع في تبرئة ساحة الإسلام من هذه التهمة!! فليكن الإسلام قام على السيف أو لم يكن، وإنما الحقيقة التي لا جدال فيها هو أننا الآن- أمم المسلمين- ندين بالإسلام.. دينا في قلوبنا، ينير طريقنا في الحياة، ويسدّد ويثبت خطانا على مواقع الحقّ، كما أننا ندين أو يجب أن ندين بالقوة، سلاحا في أيدينا نحمى به مجتمعنا، ونصون بها مقدّساتنا، وندفع بها يد المعتدين على أوطاننا.


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}.
التفسير:
المسلم.. وكم حسابه في ميدان القتال؟
السلاح ليس هو كل شيء في القتال، وتحقيق النصر.. وأعداد المقاتلين وكثرتهم، ليست هى الميزان الذي يرجح به جيش على جيش.. وإنما الذي يجعل للسلاح أثره وفاعليته، ويقيم للكثرة وزنا وقدرا، هو درجة الإيمان التي يكون عليها الطرفان المتقاتلان.
فالإيمان حين يعمر قلب المؤمن، ويملك عليه مشاعره- يجعل العصا التي في يد المؤمن أكثر مضاء، وأقوى أثرا من السيف في يد غير المؤمن، أو من هو أضعف إيمانا منه.
ومن هنا كان من منن اللّه سبحانه وتعالى على نبيّه أن جعل أولياءه الذين يدفعون العدوّ عن دعوته، جندا مسلحين بالإيمان والتقوى، بعد أن تسلحوا بالسلاح، وأعدوا للعدو ما يرهبونه به، من القوة ومن رباط الخيل.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
إشارة إلى هؤلاء الجند الذين أقامهم اللّه سبحانه جنودا لنصرة النبىّ، ودفع يد الباغين عليه، المتسلطين على دعوته.
وإنه ليكفى النبىّ كفاية مطلقة أن يكون اللّه سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، فهو في ضمان وثيق من الحماية التي لا تغفل أبدا، ولا تقف لقوتها قوة أيّا كان بأسها، وكانت سطوتها.
وإذن فما تأويل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؟ وما داعية عطف المؤمنين على لفظ الجلالة؟ وهل قوة اللّه سبحانه وتعالى تحتاج إلى قوة تسند وتعين؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
والجواب- واللّه أعلم- أن في هذا العطف تشريفا وتكريما للمؤمنين، إذ أن في هذا العطف وصلا لهم باللّه سبحانه وتعالى، وجعلهم نفحة من نفحات رحمته، وجندا من جنوده التي يدافع بها عن الحق، ويدفع بها في وجه الباطل:
{أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى إضافة المؤمنين إلى النبىّ، بمعنى: يا أيها النبىّ حسبك اللّه، وحسب المؤمنين، أي يكفى أن يكون اللّه ناصرا لك وللمؤمنين.. وهذا معنى لا نرضاه، إذ يدفع عن المؤمنين هذا التكريم الذي اختصهم اللّه به، بل ويذهب بما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}! وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} هو تشريف للمؤمنين، ودفع لقدرهم، وأنهم- بما في قلوبهم من إيمان- في منزلة لا ينالها الكافرون والمشركون، وأن الواحد منهم يرجح عشرة من هؤلاء الذين لا يؤمنون باللّه.
والأمر بتحريض النبىّ للمؤمنين على القتال، إنما جاء بعد أن أمروا بأن يعدّوا لقتال العدوّ ما استطاعوا من عدد الحرب ووسائل القتال، من سلاح، وعتاد، وخيل.. وذلك بعد أن أعدّوا الرّجال الذين راضوا أنفسهم على الجهاد في سبيل اللّه، ووطنوها على الاستشهاد ابتغاء مرضاة اللّه.
فإذا جاء النبيّ بعد هذا يحرّض المؤمنين على القتال، ويستحثهم له، ويغريهم به، وجد قلوبا صاغية إليه، ونفوسا مستجيبة لما يندبهم له، إذ كان إنما يدعو مؤمنين استجابوا للحرب، ويستحث جنودا أعدوا أنفسهم للحرب، ورصدوها للدفاع عن دين اللّه، وملئوا أيديهم بالسلاح، كما ملئوا قلوبهم بالإيمان.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أمور.. منها:
أولا: هل هذا الشرط خبر في لفظه ومعناه.. بمعنى أن المراد به الكشف عن قدر المؤمنين، وما بينهم وبين الكافرين من بعد بعيد في القوة.
أم أنه خبر أريد به الأمر والإلزام، بمعنى أنه مطلوب من المؤمنين ديانة وشرعا، أن يثبت في ميدان القتال لعشرة من الكافرين.. فإن فرّ، أو نكل كان آثما..؟
أجمع المفسّرون على أن هذا الشرط خبر مراد به الأمر، وأن واجبا على المسلم أن يثبت للعشرة من العدوّ في ميدان القتال، وأن يغلبهم، فإن فرّ أو نكث كان آثما، بل ذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فقال: إن المسلم إذا لم يقتل العشرة، بل قتل هو، كان آثما، لأنه لم يحقق ما أمره اللّه به، وهو أن يغلب العشرة، لا أن يثبت لقتالهم وحسب!
وهذا الرأى الذي أجمع عليه المفسّرون قائم على أن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها، وهى قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً..}.
وسنعرض لقضية القول بالنسخ، بعد هذا.
والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا الشرط هو خبر في مبناه، ومعناه، ومفاده.. وأن هذا الخبر قد جاء تعقيبا على أمر اللّه سبحانه وتعالى النبىّ، بتحريض المؤمنين على القتال، وإغرائهم به، ليهوّن على المسلمين أمر القتال، وليخفف عنهم بعض ما يقع في نفوسهم من تكره له، حين يرون قلّتهم وكثرة العدوّ المتربص بهم.. فإذا علموا أنّهم بإيمانهم باللّه، وبتأييد اللّه لهم، أن الواحد منهم يغلب عشرة من الكافرين، طمعوا في أعدائهم، واستقبلوا الدعوة إلى لقائهم، على رجاء وأمل في الظفر بهم.
وثانيا: لم كان وزن المؤمنين في هذه الآية بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. ثم كان وزنهم في الآية التي بعدها، بحيث يغلب الواحد منهم اثنين من عدوّهم؟
يقول أكثر المفسّرين: إن ذلك كان والمسلمون قليلون، وذلك في أول الإسلام، فكان فرضا عليهم أن يحملوا هذا العبء الثقيل، وأن يقف الواحد منهم لعشرة من العدو، ويتغلب عليهم.. فلما كثر المسلمون بعد هذا، خفف اللّه عن المسلمين الأولين ما فرضه عليهم أول الإسلام، فبدلا من أن يلقى الواحد منهم عشرة ويغلبهم، أصبح المطلوب منه أن يصمد لاثنين فقط ويتغلب عليهم.!!
وهذا يعنى أن الآية الثانية جاءت ناسخة للحكم الذي تضمنته الآية الأولى.
والذي نقول به- واللّه أعلم- أن الآيتين محكمتين، لا نسخ فيهما، ولا تناسخ بينهما.. وذلك أن الحكم الذي تضمنه الشرط في الآيتين وارد في صيغة الخبر، والمعروف عند الذين يقولون بالنسخ، أنه لا تناسخ بين الأخبار ولا يرد هذا قولهم: إن الخبر يراد به الأمر هنا، فهذا القول منهم لا حجة لهم عليه، إلا القول بأن الآيتين متناسختين، وذلك يقضى بأن يكون الحكم فيهما واردا في غير خبر.. فلزم لذلك أن يخرج الخبر عن معناه إلى معنى الطلب.
فالحجة على النسخ، هى القول بالنسخ.. وإذن فلا حجة! ومن جهة أخرى.. فإن القول بالنسخ يقضى بأن يكون بين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- مسافة زمنية، بحيث يكون لتغيّر الحكم ونسخه بحكم آخر مقتض اقتضاه تغيّر الحال بامتداد الزمن.. وليس هناك دليل يدل على أن فارقا زمنيا وقع بين نزول الآيتين.. بل ظاهر الآيتين ينبىء عن أنهما نزلتا معا في وقت واحد.. وقد قيل إنهما نزلتا في غزوة بدر، وقيل قبل بدء القتال.. وهذا قول يقول به القائلون بالتناسخ بين الآيتين ويقررونه! فالآية الأولى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..} هذه الآية هى إخبار عن حال المؤمنين في الوقت الذي خوطبوا فيه بها، وأنهم يحملون من طاقات القوى الروحية والنفسية بما في قلوبهم من إيمان وتقوى، بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. إذا حقّق معنى الصبر الذي هو قيد للشرط.
هذا ما سمعه المسلمون يؤمئذ من خطاب اللّه سبحانه وتعالى لهم، فانكشف لهم منه ما أودع اللّه فيهم- بسبب إيمانهم- من تلك القوى العظيمة التي يجدونها معهم، وفى هذا ما يريهم فضل اللّه عليهم، وتكريمه لهم، وأنهم موضع لرحمة اللّه، ومغرس كريم لآلائه ونعمائه.
وتلك نعمة جليلة من نعم اللّه، وبشرى مسعدة مما يبشر اللّه به عباده المؤمنين.. ومن تمام هذه النعمة، وكمال هذه البشرى أن تتبع النعمة بنعمة، وأن ترفد البشرى ببشرى، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة بعد هذا:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهذا الخبر الذي تلّقّاه المسلمون من هذه الآية هو خبر على حقيقته، لم يقصد به الأمر، بأن يكلّف المسلم التغلب على اثنين من الكافرين بدلا من عشرة.. بل إن هذا الخبر يثير في نفس المسلم شعورين:
أولهما: الإحساس بأنه وإن كان في كيانه من القوّة ما يقوم لعشرة من الكافرين، فقد عرضت له عوارض من خارج نفسه، قد أخذت من تلك القوة لحسابها، حتى تتوازن، وتحتفظ بأدنى مستوى من القوة يكون عليها المؤمن في قتاله للكافرين.
ذلك أن هذا الضعف الذي ورد على المسلمين لم يكن مؤثّرا على تلك الجماعة التي التقى بها الإسلام على أول الطريق، والتي آمنت به إيمانا اشتمل على وجودها كلّه.. فهذه، الجماعة لم تزدها صحبتها للإسلام إلّا قوة إلى قوة، ويقينا إلى يقين.. وإنما جاء الضعف إليها مع أولئك الذين دخلوا في دين اللّه أفواجا، فآمنوا كما آمن الناس، متابعة لرؤسائهم وأصحاب الكلمة فيهم، دون أن يتعرّفوا إلى الإسلام، وأن يخلطوا أنفسهم به، ويضيفوا وجودهم إليه.
وهؤلاء كانوا معظم الأعراب الذين يقول اللّه سبحانه فيهم: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات].
ولهذا فقد ارتدّ كثير منهم عن الإسلام، بعد وفاة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إذ لم يك الإيمان قد دخل قلوبهم وسكن إليها.
فهؤلاء مسلمون قد دخلوا في صفوف المسلمين، وحاربوا مع المؤمنين، فلم يكن فيهم من القوى الروحية ما يرفعهم كثيرا عن المشركين، ويجعل قوة الواحد منهم تعدل قوة رجلين من العدوّ، فضلا عن عشرة.. ولهذا أضيف حسابهم إلى حساب الصفوة المختارة من المسلمين، من صحابة رسول اللّه من المهاجرين والأنصار، الذين كانت ولا تزال قوة الواحد منهم تعدل عشرة من الكافرين.. وبهذا صار حساب المسلمين في مجموعهم قائما على هذا التقدير:
الواحد منهم باثنين من عدوّهم.. على حين أن أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما زال الواحد منهم يرجح في نفسه عشرة من الكافرين.
بل وأكثر من هذا.. فإن صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لم يكونوا على درجة واحدة في هذه القوة.. بل كان فيهم من يرجح العشرين، والثلاثين بل والمائة من العدوّ، على حين كان فيهم من يرجح الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة، أو العشرة.. فإذا أضيف حساب بعضهم إلى بعض كانوا في مجموعهم على هذا التقدير الذي أخبر القرآن الكريم به، وهو أن الواحد منهم يرجح عشرة من عدوهم.
وهذا هو السرّ في أن المؤمنين قد لبسوا صفه واحدة، وحسبوا كيانا واحدا في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}، ولم يجىء الخبر القرآنى عنهم بلفظ المفرد.. هكذا: الواحد منكم يغلب عشرة..!
وهذا هو السرّ أيضا في أن حساب المؤمنين كان في أول الأمر محصورا في أعداد قليلة.. عشرين ومائة، على حين كان بعد ذلك مدلولا عليه بالمئة والألف.. إذ كانوا في الأول أعدادا قليلة في مجموعهم، ثم تضاعفت هذه الأعداد، فكانت ألوفا ألوفا.
وثانى الشعورين اللذين يجدهما المسلم من قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ...} أنّه على أية حال يكون عليها المسلمون- في مجموعهم- من الضعف، فإنهم أرجح كفّة من عدوّهم في مجموعه، وأن جماعتهم المقاتلة تغلب الجماعة المقاتلة لها ولو كانت مثليها في العدد.. وهذا ميزان المسلمين المقاتلين دائما، في أي حال، بل وفى أسوأ حال.. لأنهم إنما يقاتلون في جبهة الحق، ومن أجل قضية الحقّ.. وهذا من شأنه أن يقيم في كيانهم شعورا بأنهم إنما يقاتلون للّه، وفى سبيل اللّه، لا لأنفسهم، ولا لدنيا يريدونها.. فهم- والحال كذلك- جند من جند اللّه... يمدّهم اللّه بعونه، وتأييده، ونصره.
وهذا ما يشير إليه تعالى، فيما كان عليه المؤمنون والمشركون في غزوة بدر، إذ يقول سبحانه: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران].
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ليس مرادا به رفع حكم كان واقعا على المؤمنين، ملزما لهم، حيث كان الواحد منهم مطالبا بقتال وقتل عشرة من العدو، ثم أصبح مطالبا بقتال وقتل اثنين- بل إنه إلفات للمسلمين إلى ما أمدهم اللّه سبحانه وتعالى به من أنصار وأعوان، حين كثّر أعدادهم، وأنهم الآن ليسوا هم وحدهم الذين يحملون عبء الدفاع عن الدعوة الإسلامية، في وجه عدو يملأ وجه الأرض حولهم، فقد كثرت أعداد المسلمين معهم، وإن كانوا أضعف منهم إيمانا، وصبرا على مكاره الحرب، واستبسالا في لقاء العدوّ.
فالآية الأولى خبر، يكشف عن حال، والآية الثانية، خبر آخر يكشف عن حال أخرى.
وعلى هذا تظل الآيتين تحدثان عن حالين من أحوال المسلمين، حالهم حين يكون إيمانهم على هذا المستوي الذي كان عليه المسلمون الأولون السابقون من المهاجرين والأنصار.. وحالهم حين يضعف إيمانهم فتعرض لهم عوارض الضعف والوهن في لقاء عدوّهم.
وهذا من شأنه ألا يقطع الأمل في نفوس المسلمين بأن ينشدوا القوة دائما، وأن يلتمسوها في الإيمان والصبر، وأنه كلما قوى إيمانهم وصبرهم قويت شوكتهم، واشتدت على العدوّ وطأتهم، وكان حساب الواحد منهم راجحا بعشرة من العدو المقاتل لهم.
فإذا كانت جماعة من جماعات المسلمين في صقع من أصقاع الأرض، تقاتل في سبيل اللّه، وكانت في قلة ظاهرة أمام عدوّ كثيف العدد، فإنّ لها أن تنشد المدد من الإيمان باللّه، وأن تنظر إلى نفسها على ضوء قول اللّه تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} فإن هم فعلوا ذلك، وأخلصوا النية والعمل للّه، حققوا هذا الوصف الذي وصف اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين خلت نفوسهم من الضعف، والوهن.
وقد فعل المسلمون هذا فعلا، في سيرتهم مع الإسلام، وفى انتصارهم على أعداد تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف.
فإن كنت في شك من هذا فاسأل التاريخ.. بكم من المسلمين فتح خالد بن الوليد مملكة فارس؟ وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم؟
وكم كانت أعداد المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر؟
وبكم من المسلمين اقتحم طارق بن زياد بلاد الأندلس، واستولى على زمام الأمر فيها؟
وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه باللّه، كان وحده كتيبة تغلب العشرات، لا العشرة من جند العدوّ.
ونسأل:
ترى لو فهم المسلمون هاتين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- على أنهما حكمين، ملزمين لهما.. أكان هذا الذي كان منهم، فيما يحدّث به التاريخ عنهم في ميدان القتال؟ وفيما حققوه من نصر مبين على أعدائهم الذين التقوا بهم في أكثر من ميدان، وهم قلة قليلة في وجه أعداد كثيرة، إذا أحصيت كان المسلم محسوبا فيها بحساب عشرات وعشرات؟.
وفى قوله تعالى في وصف العدو المقاتل للمؤمنين: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ما يكشف عن الفارق الذي فرق بينهم وبين المؤمنين، حتى كان المؤمن يغلب عشرة منهم، وقد يكون في هؤلاء العشرة من هو أقوى قوة، وأمتن بناء، وأشدّ ساعدا.
ذلك أن المشركين، والكافرين من أعداء المؤمنين {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لا يسكن إلى كيانهم إيمان باللّه، وباليوم الآخر، فهم حين يقاتلون إنما يقاتلون على مخاطرة بحياتهم التي يحيونها في الدنيا، ولا تخطر يبالهم خاطرة أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أخلد وأبقى، وأطيب وأهنأ لمن آمن واتقى... ومن هنا كان حرصهم على ما في أيديهم من حياة حرص الشحيح على شربة ماء تقع ليده على ظمأ، في صحراء.. ومن هنا أيضا كان جبنهم في مواقف القتال، وانحلال عزائمهم، وزيغان أبصارهم، وتطاير قلوبهم هلعا وفزعا.
هذا، على حين أن المؤمن يقاتل وهو على {فقه} بالموقف الذي يقفه، وأنه صائر به إلى إحدى الحسنيين، إما النصر الذي يكتب به للإسلام عزّا، وينال به عند اللّه أجرا، وإما الاستشهاد الذي ينتقل به إلى دار خير من داره، وإلى عالم أكرم وأطيب من عالمه، حيث ينطلق في رحاب اللّه، ينعم بما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.


{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.
نزلت هذه الآية في غزوة بدر، وفى شأن الأسرى الذين وقعوا في يد المسلمين من مشركى قريش، وكانت عدّتهم سبعين أسيرا.
وقد استشار النبىّ أصحابه في شأنهم، إذ لم يكن قد جاءه أمر سماوى فيهم، فاختلف الصحابة في المعاملة التي يعاملونهم بها.. فقال بعضهم بقتلهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، وتوهينا لشوكة المشركين، بالقضاء على القوة العاملة فيهم، إذ كان هؤلاء الأسرى وجوه القوم وسادتهم.. وينسب هذا الرأى إلى عمر ابن الخطاب، وعبد اللّه بن رواحة- رضى اللّه عنهما.. وقال بعض الصحابة باستبقائهم وأخذ الفدية منهم، إبقاء على أواصر القربى، وإعانة للمسلمين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، بما يؤخذ منهم فدية.. وينسب هذا الرأى إلى أبى بكر الصديق.. رضى اللّه عنه.
وقد أخذ النبي صلى اللّه عليه وسلّم بالرأى القائل باستبقاء الأسرى وقبول الفدية منهم.
ثم أخذ- صلوات اللّه وسلامه عليه- الفدية من بعض الأسرى، ثم كان لا يزال ينتظر ما فرض على بعضهم منها، حين نزل قوله تعالى: {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}.
والإثخان في الأرض: التسلط عليها والتمكن منها بالقوة.. يقال أثخن فلان أي جرح في القتال جرحا شلّ حركته، وأبطل عمله في الحرب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} [4: محمد] وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ توجيها غير مباشر في قوله تعالى {ما كانَ لِنَبِيٍّ} تكريم ربانىّ للنبىّ الكريم، إذ لم يوجّه إليه سبحانه الخطاب في صيغة محددّة، مباشرة هكذا.. {ما كان لك أيها النبي} مثلا.
وفى توجيه اللوم إلى المؤمنين بقبول الفدية في قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا} تكريم بعد تكريم لمقام النبىّ، وعدم مواجهته بما يسوؤه.
والعرض: خلاف الجوهر، وعرض الدنيا، متاعها الزّائل.. والدنيا كلّها عرض زائل بالنسبة للآخرة.
وفى قوله تعالى: {لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} عتاب للنبىّ والمؤمنين، على ما كان منهم من قبول الفدية، وأنهم ما كان لهم أن يقبلوا فدية من هؤلاء الأسرى، بل كان ينبغى أن يكون حكمهم فيهم هو القتل.. لأنهم كانوا في أول صدام لهم مع المشركين، وكان مكانهم في الأرض لا يزال قلقا مهددا بقوى البغي المسلطة عليهم.
فكان من التدبير أن يضعفوا عدوّهم بقتلهم، ما أمكنتهم الفرصة فيهم، حتى تتراخى يد العدوّ عنهم، وتثبت أقدامهم على الأرض.. وعندئذ يجوز لهم أن يبقوا على الأسرى، وأن يقبلوا الفدية منهم.
ومن جهة أخرى، فإن المسلمين كانوا مع أول تجربة ذاقوا فيها طعم النصر على العدوّ، فلا ينبغى أن يكون أول ما يطعموه من هذا النصر هذا العرض الزائل، فذلك من شأنه أن يجعل للمغانم سلطانا على نفوسهم في حربهم للعدوّ، الأمر الذي كان من تدبير الحكيم العليم معهم، أن يحرمهم منه أول الأمر، إذ جعل أنفال معركة بدر كلّها ليد النبىّ، يضعها حيث يشاء.
والسؤال هنا: هل من إنسانية الإسلام أن يقتل الأسرى، ويعمل فيهم السيف، وقد صاروا ذمّة في يد المسلمين؟
والجواب على هذا: أن ذلك كان في أول معركة من معارك الإسلام، وأن هؤلاء الأسرى كانوا- في جملتهم- معروفين للنبىّ والمسلمين، بكيدهم للإسلام، وعدوانهم على المسلمين، وتنكيلهم بهم حتى أخرجوا من ديارهم وأموالهم.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت حكم المفسدين في الأرض، المحاربين للّه ورسوله، وفيهم يقول اللّه تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [33- 34: المائدة] وقد أهدر النبىّ دم بعض المشركين الذين كانوا على تلك الصفة، فقتل اثنين من الأسرى، صبرا، وهما عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
والكتاب المشار إليه في قوله تعالى: {لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} هو ما قضى اللّه به سبحانه وتعالى في سابق علمه، وهو العفو عن الذنب إذا لم يكن قد جاء حكم إلهى بتحريمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} [115: التوبة].
ولهذا جاء قوله تعالى بعد هذا العتاب، حاملا الصفح الجميل، مزكّيا ما فعله النبىّ والمؤمنون، فقال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً} فهو الحلال الذي لا حرمة فيه، الطيّب الذي لا خبث معه.. وكان هذا إيذانا للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم بأن يمضى فيما قضى به في شأن الأسرى، وأن يقبل فداء من لم يأخذ منه فدية بعد، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً..}.
الآية.. فهذا يعنى أنه إلى حين نزول هذه الآيات كان بعض الأسرى في يد المسلمين لم يطلق سراحهم بعد.
وفى قوله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في هذا عزاء ومواساة من اللّه سبحانه وتعالى لهؤلاء الأسرى، الذي أصيبوا في أهليهم، بمن قتل منهم في بدر، وها هم أولاء يصابون في أموالهم بما يؤخذ منهم من فدية.. وفى هذا العزاء ما يذهب بكثير مما في نفوسهم من أسى ومرارة، وما في قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام والمسلمين، إذ يرون في هذا العزاء الإلهى دعوة إلى التصالح والتفاهم والالتقاء بالإسلام، والمواخاة للمسلمين، وأن اللّه سبحانه وتعالى ليس ربّ المسلمين وحدهم، بل هو ربهم، وربّ العباد جميعا، وربّ كل شىء، وخالق كل شىء، وأن الإسلام ليس من حظ هؤلاء المسلمين الذين آمنوا باللّه ورسوله، وكان لهم من اللّه هذا النصر الذي رأوه بأعينهم رأي العين في بدر- بل إنه حظ مشاع بين الناس جميعا، من سبق منهم ومن لم يسبق، وأن الناس جميعا مدعوون إليه في كل وقت إلى يوم القيامة! وعلى هذا التقدير، وبهذا الحساب- تكون معركة بدر ليست نصرا للمسلمين الذين قاتلوا فيها، وإنما هى نصر للإسلام، ونصر لكل مسلم دخل أو يدخل في الإسلام، لأنها ليست لحساب شخص أو قبيلة، وإنما هى لحساب هذا الدّين الذي يرتفع بمبادئه فوق الأشخاص والقبائل، ويتخطّى بشريعته حدود المكان والزمان.
وفى قوله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ..}.
فى هذا يسأل عنه وهو: كيف يعلّق علم اللّه تعالى بما في قلوبهم، على شرط؟
وهو سبحانه وتعالى يعلم ما في القلوب قبل أن توجد القلوب وأصحاب القلوب؟
والجواب- كما قلنا في أكثر من مرة- أن تعليق علم اللّه بأفعال العباد لا يعنى بحال ما ماهو واقع في علم اللّه مما سيفعله العباد، ولكن المراد بهذا التعليق هو العلم الواقع على الأفعال حال وقوع هذه الأفعال من المكلفين.
فعلم اللّه سبحانه بهذه الأفعال علم متصل بها في جميع أحوالها وأزمانها، فهو عالم بها قبل أن تحدث وتقع من أصحابها، وعالم بها بعد أن تقع وتحدث، وتعليق علم اللّه سبحانه بحدوثها ووقوعها، هو إلفات لأصحابها، وإلى علم اللّه بهم وبأفعالهم وهم متلبسون بها، ومحاسبون عليها.
وفى قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو وعد كريم لمن ينظر لنفسه من هؤلاء الأسرى، ويخلص بها إلى اللّه، ويدخل في دين اللّه، وعندئذ سيشارك المسلمين فيما سيفتح اللّه به عليهم، وما يقع لأيديهم من غنائم.. وأكثر من هذا، فإن اللّه سبحانه وتعالى سيقبلهم في المقبولين من عباده، ويغفر لهم ما كان منهم من عداوة للإسلام، وأذى للمسلمين.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} هو وعيد لأولئك الذين لم يستجيبوا لهذا النداء الكريم، وهذا الصفح الجميل من رب العالمين، فأمسكوا على ما في قلوبهم من عداوة وضغينة وطووا صدورهم على الثأر والانتقام- فهؤلاء إن يخونوا الرسول، فإنهم قد خانوا اللّه من قبل، بأن كفروا به، وهو ربهم، وخالقهم، ورازقهم، فإذا خانوا الرسول بعد هذا، فليس ذلك بالشيء الغريب عليهم، فكفرهم بنعم المنعم عليهم طبيعة فيهم.. وهم بهذه الخيانة للّه قد جنوا على أنفسهم، فأمكن اللّه منهم، أي انتقم اللّه منهم، وساقهم إلى ما هم فيه من أسر. ولو أنهم لم يخونوا اللّه، واستجابوا لدعوة الإيمان لعافاهم اللّه من هذا البلاء.. فإن ظلوا على ما هم عليه من خيانة للّه، وخيانة للرسول، فسيرون من البلاء والنكال أكثر مما رأوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في قلوبهم {حكيم} فيما يقضى فيهم، وما يأخذهم به من عقاب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6